معاير تحديد العقود الإدارية
إن عقود الإدارة لا تخضع لنظام قانوني واحد، مما استلزم ضرورة البحث عن معيار لتمييز العقود الإدارية عن العقـود المدنية . وتظهر أهمية التميز بين هذه العقود من حيث القانون الواجب التطبيق، وكذا معرفة الجهة القضائية المختصة .
العقود الإدارية بتحديد القانون “المعيار القانوني “
يلجـأ المـشرع في بعـض الأحيـان – وذلـك عنـدما يجـد أن تطبيـق قواعـد القـانون العـام أكثـر ملائمـة لحـل المنازعـات المعروضـة مـن القـانون الخـاص -إلى إضـفاء الطـابع الإداري علـى بعـض العقـود، ويقـرر اختـصاص القاضـي الإداري بـالنظر فيما تثيره من منازعات . ويطلق على هذه العقود تسمية العقود الإدارية بتحديد القانون.
يجب أن نشير إلى أنه لا مجال للاجتهاد إذا نص المشرع على اعتبار أحد العقود عقـدا إداريـا، أو نـص صـراحة علـى اختصاص القضاء الإداري بنظر بعض أنواع العقود، ممـا يعـني أنـها عقـود إداريـة تخـضع لأحكـام القـانون العـام الـذي يطبقـه هذا القضاء .
ظهـر هـذا التحديـد لأول مـرة في نـص المـشرع الفرنـسي في بدايـة عهـد الثـورة الفرنـسية عنـدما وصـف بعـض العقـود إدارية، وخص مجلس الدولة ومجالس الأقاليم للنظر فيما تثيره من منازعات، سعيا منه لتطبيـق مبـدأ الفـصل بـين الـسلطات مـن جهـة، والفـصل بـين الوظيفـة القـضائية والإداريـة مـن جهـة أخـرى، وذلـك بمنـع القـضاء العـادي مـن التـصدي لأعمـال الإدارة .ومن بين العقود التي نظمها المشرع الفرنسي وجعل الفصل في منازعاتها من اختصاص القضاء الإداري نذكر عقود الأشغال العامة، عقود التوريد، عقود القروض العامة، عقود بيع أملاك الدولة…الخ.
ونفس النهج انتهجه المشرع الجزائري، حيث نصت المادة الثالثة عشر من المرسوم الرئاسي رقم 10-236 المتضمن
قانون الصفقات العمومية على أربعة عقود وأضفى عليهما الطابع الإداري وهي :عقود إنجاز أشغال، عقود اقتناء اللوازم، عقود تقديم الخدمات، عقود إنجاز الدراسات .
وربمـا المـشرع الجزائـري لا ينظـر إلى العقـد الإداري كتـصرف قـانوني إداري مـستقل عـن الأعمـال القانونيـة الإداريـة الانفراديـة . ومـا يثبـت هـذا الطـرح، هـو عـدم الإشـارة إلى العقـود الإداريـة لا في قـانون الإجـراءات المدنيـة المتـضمن القواعـد الإجرائيـة للمنازعـات الإداريـة إلى جانـب المنازعـات العاديـة، ولا في قـانون مجلـس الدولـة باعتبـاره أعلـى هيئـة قـضائية في المسائل الإدارية، ولا في قانون المحاكم الإدارية . فالنص على بعض العقود الإدارية في قانون الـصفقات العموميـة غـير كـافي لتحديد اختصاص القاضي الإداري بمنازعات العقود الإدارية.
وهناك من فسر سبب عدم النص على العقود الإدارية بمناسبة تحديد اختصاصات القاضي الإداري يعـود إلى المعيـار
الـذي تبنـاه المـشرع الجزائـري وهـو المعيـار العـضوي، الـذي مفـاده اختـصاص القـضاء الإداري في كـل المنازعـات الـتي تكـون الدولة والولاية والبلدية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية طرفا فيها بغض النظر إلى طبيعة النزاع.
غير أن هذا التبرير غير سليم في مجال العقود الإدارية، بل يصلح فقط في مجال القـرارات الإداريـة، باعتبـار أن الإدارة وحدها هي التي تملك إصدارها وبإرادēا المنفردة .أما بشأن العقود فقد تختار الإدارة اللجوء إلى قواعد القـانون الخـاص إذا رأت في ذلك تحقيقا للمصلحة العامة، مـا دامـا لهـا حريـة اختيـار وسـيلة التعاقـد باسـتثناء حـالات معينـة أيـن يلزمهـا المـشرع صراحة بإتباع أسلوب معين على سبيل الحصر.
وما يدعم قولنا في هذا اجملال، هو تفطن الحكومة لهذه الثغرة، وذلك بإدراجها للعقـود الإداريـة في قـانون الإجـراءات المدنية والإدارية عن طريق إحالة الاختصاص فيما تثيره من منازعات للمحاكم الإدارية وذلك في المادة 800 والمادة804 من قانون 08-09 المؤرخ في 25-02-2008 ) المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية) .
انتقـد غالبيـة الفقهـاء فكـرة التحديـد التـشريعي للعقـود الإداريـة وذلـك لعـدة أسـباب، منهـا مـا يرجـع إلى طبيعـة بعـض العقود التي قد لا تتلاءم مع التكيف الذي يضفيه عليها المشرع، بل وحتى في حالة انسجام هذا التكيف مع طبيعة العقد ومضمونه فإن تحديد المشرع له يكون كاشفا فقط . وبناءا علـى ذلـك، فـإن غالبيـة الفقـه يـرى أنـه مـن الأفـضل تـرك مـسألة تحديد العقود الإدارية للقاضي الذي لاشك أنه أقدر على كشف الطبيعة القانونية له .
المعاير القضائية في تحديد العقود الإدارية
إن عـدم تحديـد المـشرع لمفهـوم العقـد الإداري كتـصرف قـانوني تلجـأ إليـه الإدارة لتـسيير مرافقهـا العموميـة وإشـباع حاجات الأفراد – إذ أكتف بذكر البعض منها على سبيل المثال وأضفى عليها الطابع الإداري-دفع بالقضاء الإداري إلى البحث عن المعيار الأنجع لتحديد مفهوم العقد الإداري، ومن ثمة تحديد اختصاصه بالمنازعات الـتي يمكـن أن تثـار بـشأنه . وأكثر من ذلك، فإن القضاء لم يتقيد بالتعداد التشريعي للعقود، بل أخذ يوسع اختصاصه ليشمل عقود أخرى غير تلك المنصوص عليها في القانون.
لقد كان مجلس الدولة الفرنسي السباق في محاولـة ضـبط مفهـوم العقـد الإداري، إذ جـاء في أحـد أحكامـه أن العقـد
الإداري هو ذلك العقد الذي يبرمه شخص معنوي عام، بقـصد تـسيير مرفـق عـام أو تنظيمـه، وتظهـر فيـه الإدارة نيتهـا في الأخذ بأحكام القانون العام وذلك بتضمين العقد شروطا استثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص.
يتضح من خلال هذا التعريف أن إضفاء الطابع الإداري على العقد يتوقف على تحقق ثلاثـة شـروط أساسـية تتمثـل
فيما يلي :
أن يكون أحد أطراف العقد شخص من أشخاص القانون العام
لكـي يكـون العقـد إداريـا يجـب أن يكـون أحـد طرفيـه شـخص مـن أشـخاص القـانون العـام، ولعـل الـسبب في ذلـك
يكمن في كون قواعد القانون العام إنما وجدت لتنظم وتحكم تصرفات الأشخاص العامة دون سواها.
وبالرجوع إلى التشريع الجزائري نجد أن المادة السابعة من قانون الإجـراءات المدنيـة قـد حـصرت الأشـخاص المعنويـة في كل من الدولة والولاية والبلدية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري.
غـير ان المـادة 02 مـن المرسـوم الرئاسـي رقـم 10-236 حـددت الأشـخاص الـتي تطبـق عليهـا أحكـام المرسـوم
المتعلق بالصفقات العمومية في كـل مـن: “الإدارات العموميـة والهيئـات الوطنيـة المـستقلة والولايـات والبلـديات والمؤسـسات العموميـة ذات الطـابع الإداري ومراكـز البحـث والتنميـة، والمؤسـسات العموميـة الخـصوصية ذات الطـابع العلمـي والتكنولـوجي، والمؤسـسات العموميـة ذات الطـابع العلمـي والثقـافي والمهـني، والمؤسـسات العموميـة ذات الطـابع الـصناعي والتجاري والمؤسسات العمومية الاقتصادية عنـدما تكلـف بإنجـاز عمليـة ممولـة كليـا أو جزئيـا، بمـساهمة مؤقتـة أو نهائيـة مـن الدولة…”.
والملاحظ أن المـشرع الجزائـري اسـتبعد بموجـب هـذه المـادة العقـود المبرمـة بـين إدارتـين عمـوميتين إذ لا تخـضع لأحكـام المرسوم المنظم للصفقات العمومية.
إذا كانـت الأشـخاص العامـة الإداريـة لا تثـير أي إشـكال في إضـفاء الطـابع الإداري علـى عقودهـا مـتى تعلـق الأمـر بنشاط مرفق عام وضمنت عقودها شروط استثنائية، فإن عقود الأشخاص المعنوية الاقتصادية – صناعية وتجارية أثارت جدل فقهي وقضائي واسع النطاق.
فبالنسبة للقضاء الإداري الفرنسي كان يعتبر أن العقود التي تبرمهـا المرافـق الاقتـصادية – صـناعية كانـت أم تجاريـة مع المنتفعين بخدماتها لا تعتبر عقودا إدارية، حتى لو تضمنت شروطا استثنائية غير مألوفة، بل تعد دائما من عقود القانون الخاص.
ونفس المبدأ أكدته محكمة التنازع الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 17-02-1962 بـأنكـل العقـود الـتي تبرمهـا
المرافق العامة الصناعية والتجارية تعتبر دائما وفي جميع الأحوال عقودا مدنية.
أما بالنسبة للقضاء الإداري الجزائري فقد كان للمجلس الأعلى فرصة ليؤكد على ذات المبدأ مسايرا بـذلك نظـيره
الفرنسي، وذلك في قراره الصادر بتاريخ 14-02-1969″ : حيث أنه من الثابت أن الديوان الوطني للإصلاح الزراعي
هـي مؤسـسة عامـة ذات صـبغة صـناعية وتجاريـة، وأنـه تطبيقـا لأحكـام المـادة الـسابعة مـن قـانون الإجـراءات المدنيـة لا يحـق للمجلس القضائي الفاصل في المواد الإدارية أن ينظر بصورة صحيحة في دعوى موجهة ضد هذه المؤسسة.”
كما أكد مجلس الدولـة علـى عـدم خـضوع المؤسـسات ذات الطـابع الـصناعي والتجـاري لقـانون الـصفقات العموميـة
ومن ثم عدم خضوع منازعاēا لاختصاص القضاء الإداري وذلك في قراره الصادر بتـاريخ 05-11-2002 والـذي جـاء فيـه: ” ولكـن حيـث أن المـادة 59 مـن القـانون رقـم 89 /05 المـؤرخ في 12-01-1988 قـد نـصت علـى أن
المؤسـسات العموميـة الاقتـصادية والمؤسـسات العموميـة ذات الطـابع الـصناعي والتجـاري لا تخـضع لمقتـضيات الأمـر رقـم 67/90 المؤرخ في 17-06-1976 المتعلق بالصفقات العمومية…”.
غير أن هذا القرار لم يعد له أي معنى بالنظر إلى تدخل المشرع من خلال المادة الثانية المشار إليها سابقا واعتباره أن
الصفقات المبرمة من قبل المؤسسات العموميـة ذات الطـابع الـصناعي والتجـاري تخـضع لأحكـام المرسـوم المـنظم للـصفقات العمومية وذلك عندما تكلف هذه الأخيرة بانجاز عملية ممولة كليا أو جزئيا من ميزانية الدولة.
ولكن تم إخراج المؤسسات العمومية الاقتصادية من جديد من مجال المرسوم المنظم للصفقات العمومية وذلك تعديل
المادة الثانية من المرسوم رقم 10-236 وذلك بموجب المرسوم الرئاسي رقم 13 -03 حيث جاء فيها: “…ولا تخضع المؤسسات العمومية الاقتصادية لأحكام إبرام الصفقات العمومية المنصوص عليها في هذا المرسوم…”.
غير أن اشتراط وجود شخص معنوي عام كطرف في العقد لإضفاء عليـه الطـابع الإداري ليـست قاعـدة مطلقـة، إذ
يمكن أن يكون العقد بين أشخاص طبيعية إلا أنه يأخذ حكم العقد الإداري وذلك في الحالات الآتية :
-يعتبر العقد المبرم بين شخصين من القانون الخـاص عقـدا إداريـا لـيس بـالنظر إلى أطـراف العقـد بـل بـالنظر إلى موضـوعه، وذلك إذا تعلق بأشغال هي بطبيعتها تخص الدولة كالأشغال العمومية مثلا .
-يعتبر العقد المبرم بين شخصين مـن أشـخاص القـانون الخـاص عقـدا إداريـا إذا تـصرف أحـدهم باسـم ولحـساب شـخص معنوي عام بناءا على تفويض صريح من جانب هذا الأخير .
اتصال العقد بمرفق عام
إن وجود أحد الأشخاص العامة طرف في العقد غير كافي لوحده لإضفاء الطابع الإداري على العقد، بل يجـب أن
يرتبط مضمون هذا العقد بمرفق عام . ولعل مقتضيات تـسيير وتنظـيم المرافـق العامـة هـي وحـدها الـتي تـبرر مـا يحتويـه النظـام القانوني للعقود الإدارية من خروج عن القواعد المألوفة في عقود القانون الخاص.
إن علاقة العقد الإداري بالمرافق العامة تأخذ عدة صور نذكر منها :
-اتصال العقد الإداري بـالمرفق العـام في صـورة تنظـيم واسـتغلال للمرفـق . وكمثـال علـى ذلـك نـذكر عقـود الامتيـاز، عقـود الشغال العامة .
رغم كون فكرة المرفق العام فكرة جوهرية في مجال القانون الإداري وضابطا لتحديد اختصاص القاضي الإداري، إلااتصال العقد الإداري بالمرفق العامة في شكل تقديم المعاونة سواء عن طريق تقديم خدمات أو توريد سلع…الخ .
أن الأزمة التي حلت بهاا جعلت من فكرة المرفق العام غير كافية لتحديد طبيعة العقد وبالتـالي اختـصاص القـضاء الإداري.
كـل هـذا دفـع بالفقـه والقـضاء إلى اقـتراح فكـرة مكملـة للمرفـق العـام ألا وهـي الـشروط الاسـتثنائية الغـير المألوفـة في عقـود القانون الخاص، أو ما يعبر عنها بامتيازات السلطة العامة.
أن يتضمن العقد شروطا غير مألوفة في عقود القانون الخاص
إن شرط إتباع الإدارة وسائل القانون العام لصيرورته عقدا إداريا يعتبر حقا الشرط الأساسي لإضفاء الصفة الإداريـة
على عقد ما، ويعد المعيار القاطع في تحديد العقود الإدارية بطبيعتها . فهـذه الـشروط الاسـتثنائية غـير المألوفـة تكـشف عـن قـصد الإدارة في الالتجـاء إلى أسـلوب القـانون العـام في تـصرفاتها، وهـي تختلـف عـن الـشروط المعتـادة الـتي يألفهـا النـاس في عقود القانون الخاص.
عرف مجلس الدولة الفرنسي الشروط الاستثنائية بقوله أنها “: تلـك الـشروط الـتي تخـول للأفـراد حقوقـا أو تـضع علـى عاتقهم التزامات غريبة بطبيعتها عن تلك التي يرتضيها أولئك الذين يتعاملون في حدود القوانين المدنية أو التجارية.”
كذلك من أمثلة الشروط الاستثنائية غير المألوفة في القانون الخاص :
-حـق الإدارة في إعطـاء الأوامـر والتوجيهـات والتعليمـات للمتعاقـد معهـا لـضمان تنفيـذ التزاماتـه علـى أحـسن وجـه وفي الآجال المحددة؛ حق الإدارة في اللجوء إلى فسخ العقد بإرادتها المنفردة دون حاجة لإذن من القضاء؛ الإدارة، وذلك من خلال منحه جملة من الامتيازات في مواجهة الغير، كسلطته في استعمال أسلوب نزع الملكية من أجلوإضـافة إلى هـذه الـشروط الـتي تخـص الإدارة باعتبارهـا سـلطة عامـة، قـد يتـضمن العقـد علـى بنـود لـصالح المتعاقـد مـعحق الإدارة في توقيع الجزاءات على المتعاقد معها في حالة إخلاله بالتزاماته التعاقدية؛
المصلحة العامة، أو استخدام وسائل الإكراه ضد الأفراد إذا اقتضته ضرورة تنفيذ العقد .
يتضح من خلال كل ما سبق، أن العقد يأخذ الصبغة الإدارية- عدا حالة النص عليـه صـراحة في القـانون بوجـود
شخص معنوي عام كطرف في العقد، وضرورة تعلقه بمرفق عام، مع ظهور نية الإدارة في الأخذ بأسلوب القانون العام.